ويقال: إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين. قاله الواقدي وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد. وقيل: سنة أربع وخمسين. فالله أعلم. المصادر: - الطبقات الكبرى. - الإصابة في تمييز الصحابة. - فتح الباري في صحيح البخاري. - وغير ذلك.
ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي - على ستة أميال من مكة، وقيل: اثني عشر ميلا - فحمله الرجال على أعناقهم حتى دفن بأعلا مكة. فلما قدمت عائشة مكة زارته وقالت: أما والله لو شهدتك لم أبكِ عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه، ثم تمثلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك: وكنا كند ماني جذيمة برهةً * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكٍ * لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا رواه الترمذي وغيره. وروى ابن سعد: أن ابن عمر مرة رأى فسطاسا مضروبا على قبر عبد الرحمن - ضربته عائشة بعد ما ارتحلت - فأمر ابن عمر بنزعه وقال: إنما يظله عمله. وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ. ويقال: إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين قاله الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد. وقيل: سنة أربع وخمسين فالله أعلم.
- وتقدم عمرو بن العاص إلى مصر في جيوشه، ومن لحق به من العثمانية، والجميع في قريب من ستة عشر ألف, وركب محمد بن أبي بكر في قريب من ألفي فارس وهم الذين انتدبوا معه من أهل مصر، وقدم بين يدي جيشه كنانة بن بشر، فجعل لا يلقى أحدًا من الشاميين إلا قاتلهم حتى يلحقهم مغلوبين إلى عمرو بن العاص، فبعث عمرو بن العاص إليه معاوية بن حديج ، فجاءه من ورائه، وأقبل إليه الشاميون حتى أحاطوا به من كل جانب؛ فترجل عند ذلك كنانة وهو يقول: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] الآية. ثم قاتل حتى قتل وتفرق أصحاب محمد بن أبي بكر عنه، ورجع يمشي فرأى خربة فأوى إليها، ودخل عمرو بن العاص فسطاط مصر، وذهب معاوية بن خديج في طلب محمد بن أبي بكر، فمر بعلوج في الطريق فقال لهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه؟ قالوا: لا. فقال رجل منهم: إني رأيت رجلاً جالسًا في هذه الخربة. فقال: هو هو ورب الكعبة. فدخلوا عليه فاستخرجوه منها -وقد كاد يموت عطشًا- فانطلق أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان قد قدم معه إلى مصر، فقال: أيقتل أخي صبرًا؟ فبعث عمرو بن العاص إلى معاوية بن خديج أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر ولا يقتله.
" عبد الرحمن بن أبي بكر - بطل حتى النهاية " هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده.. فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار.. كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش..!! وفي غزوة بدر، خرج مقاتلا مع جيش المشركين.. وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين.. وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة.. ووقف عبد الرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه.. ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه، ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.. ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه.. اذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه، ولم يعد للفكاك منه سبيل، اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف، وبلا خداع.. فعلى الرغم من اجلال عبد الرحمن أباه، وثقته الكاملة برجاحة عقله، وعظمة نفسه وخلقه، فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.. ولم يغره اسلام أبيه باتباعه.. وهكذا بقي واقفا مكانه، حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته، يذود عن آلهة قريش، ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين.. والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز، لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى.. فأصالة جوهرهم، ونور وضوحهم، يهديانهم الى الصواب آخر الأمر، ويجمعانهم على الهدى والخير.. ولقد دقت ساعة الأقدار يوما، معلنة ميلادا جديدا لعبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق.. لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف.
ولقد كان لأبي بكر بن عبد الرحمن منزلة كبيرة ومكانة عظيمة، وكان عبد الملك بن مروان يُجِلُّه ويُكرمه، قال الإمام الواقدي: وكان عبد الملك بن مروان مُكرمًا لأبي بكر، مُجِلًا له، فأوصى الوليدَ وسليمانَ بإكرامِه. وقال عبد الملك: "إني لأهم بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا، فأذكر أبا بكر بن عبد الرحمن، فأستحي منه، وأدع ذلك الأمر له" وسوء الأثر يقصد به إخراج بني أمية من المدينة وكان أبوه مروان بن الحكم واليًا عليها، فخرج عبد الملك معه. وقال الزبير: وكان أبو بكر ذا منزلة من عبد الملك، فأوصى به حين حضرته الوفاة ابنه الوليد، فقال له: "يا بُني، إن لي بالمدينة صديقين، فاحفظني فيهما: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأبا بكر بن عبد الرحمن". تُوفي رضي الله عنه سنة 94هـ. المصادر: - "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي (4/ 416، وما بعدها). - "مختصر تاريخ دمشق" للإمام ابن عساكر" تأليف محمد ابن منظور (6/ 169، 15/ 223، 28/ 150، وما بعدها).
فقال معاوية: كلا والله أيقتلون كنانة بن بشر وأترك محمد بن أبي بكر, وقد كان فيمن قتل عثمان، وقد سألهم عثمان الماء فلم يسقوه, وقد سألهم محمد بن أبي بكر أن يسقوه شربة من الماء. فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة من الماء أبدًا؛ إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائمًا محرمًا، فتلقاه الله بالرحيق المختوم. بعض الأحاديث التي نقلها عبد الرحمن بن أبي بكر عن النبي r: - أخبر أبو عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء وأن النبي r قال: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس", وأن أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق النبي r بعشرة قال: فهو أنا وأبي وأمي فلا أدري قال: وامرأتي وخادم بيننا وبين بيت أبي بكر, وإن أبا بكر تعشى عند النبي r ثم لبث حيث صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى تعشى النبي r فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله قالت له امرأته: وما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت: ضيفك قال: أوما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء قد عرضوا فأبوا قال: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر فجدع وسب, وقال: كلوا لا هنيئًا, فقال: والله لا أطعمه أبدًا, وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها, قال: يعني حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك, فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر منها, فقال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات, فأكل منها أبو بكر, وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى النبي r فأصبحت عنده وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل ففرقنا اثنا عشر رجلاً مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل فأكلوا منها أجمعون أو كما قال.
ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه، فاذا هو من المسلمين..! ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله، أوّأبا الى دينه الحق.. وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.. لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال.. فلا طمع يدفعه، ولا خوف يسوقه.. وانما هو اقتناع رشيج سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.. وانطلق عبد الرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله، ورسوله والمؤمنين... في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبد الرحمن عن غزو، ولم يقعد عن جهاد مشروع.. ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثياته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله، فلما سقط محكم بضربة من عبد الرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين.. وازدادت خصال عبد الرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا.. فولاؤه لاقتناعه، وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا، ورفضه المداجاة والمداهنة... كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد الشيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد.. وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبد الرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال: " والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل "..!!
وبعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: أبيع ديني بدنياي؟! - وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قدم الشام في تجارة -يعني في زمان جاهليته- فرأى هنالك امرأة يقال لها: ليلى ابنة الجودي. على طنفسة، حولها ولائدها، فأعجبته, قال ابن عساكر: رآها بأرض بصرى فقال فيها: تذكرت ليلى والسماوة دونها *** فمال ابنة الجودي ليلى وماليا وإني تعاطى قلبه حارثية *** تؤمن بصرى أوتحـل الحوابـيـا وإني بلاقيهـا بلى ولعلها *** إن الناس حجوا قابلا أن تـوافيا قال: فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للأمير على الجيش: إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فظفر بها فدفعها إليه، فأعجب بها وآثرها على نسائه، حتى جعلن يشكونه إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك، فقال: والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان. فأصابها وجع سقط له فوها، فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهله, فجهزها إلى أهلها.
أهم ملامح شخصية عبد الرحمن بن أبي بكر: كان عبد الرحمن بن أبي بكر لم يجرب عليه كذبة قط, وقال ابن عبد البر: كان شجاعًا راميًا حسن الرمي وشهد اليمامة فقتل سبعة من أكابرهم منهم محكم اليمامة وكان في ثلمة من الحصن فرماه عبد الرحمن بسهم فأصاب نحره فقتله ودخل المسلمون من تلك الثلمة. - لقد كان جوهر شخصيته t الولاء المطلق لما يقتنع به، ورفضه للمداهنة في أي ظرف كان، ففي يوم أن قرر معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد بحد السيف، كتب إلى مروان عامله على المدينة كتاب البيعة وأمره أن يقرأه على المسلمين في المسجد، وفعل مروان ولم يكد يفرغ من القراءة حتى نهض عبد الرحمن محتجًّا قائلاً: "والله ما الخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقِليّة، كلما مات هِرقْل قام هِرَقْل". - ومن ملامح شخصيته كرمه وبذله: يروى أن أعرابية وقفت على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما فقالت: إني أتيت من أرض شاسعة تخفضني خافضة وترفعني رافعة في بوادي برين لحمي وهضن عظمي وتركنني والهة قد ضاق بي البلد بعد الأهل والولد وكثرة من العدد لا قرابة تؤويني ولا عشيرة تحميني فسألت أحياء العرب من المرتجي سيبه المأمون عيبه الكثير نائله المكفي سائله فدللت عليك وأنا امرأة من هوازن فقدت الولد والوالد فاصنع في أمري واحدة من ثلاث إما أن تحسن صفدي وإما أن تقيم أودي وإما أن تردني إلى بلدي, قال: بل أجمعهن لك ففعل ذلك بها.
وقد قال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - ذكر عنه حكاية: أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة. قال عبد الرحمن لمروان: جعلتموها والله هرقلية وكسروية - يعني: جعلتم ملك الملك لمن بعده من ولده -. فقال له مروان: اسكت فإنك أنت الذي أنزل الله فيك { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17]. فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أنه أنزل عذري، ويروى أنها بعثت إلى مروان تعتبه وتؤنبه وتخبره بخبر فيه ذم له ولأبيه لا يصح عنها. قال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن جده. قال: بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: أبيع ديني بدنياي؟ وخرج إلى مكة فمات بها. وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أبو مسهر، ثنا مالك قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها. ورواه أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد: فأعتقت عنه عائشة رقابا. ورواه الثوري: عن يحيى بن سعيد، عن القاسم فذكره.